سورة الطلاق - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}
{يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} خص النداء به صلى الله عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة والسلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وسادًا مسد جميعهم، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ {النبى} لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد ***
وقيل: إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريمًا له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيمًا، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}، وقيل: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، وأيًا مّا كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد، وقال بعض المحققين: لك أن تقول: لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال: إن ضربت زيدًا فاضربه ضربًا مبرحًا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربًا شديدًا، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضًا {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال يقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر واعتبار الاستقبال رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة كالإمام أبي حنيفة ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض.
وقد صرحوا جميعًا بأن ذلك طلاق بدعى حرام، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه، واستدل لذلك، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان: مالك. والشافعي. والشيخان. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه. وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء».
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر. وغيره يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن. ومن يرى أن العدة بالاطهار وهي القروء في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال، واعترض على التأويل ستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو للسافعي، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى الخالف لا له، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى عله وسلم حسا تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أو له نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له، ويشهد لكون العدة بالإطهار قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن ومنهم من قال: التقدير لاطهار عدتهن، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة عنى من دل على أن القرء هو الحيض والطهر معًا، وإن جعلت عنى اللام فيكفي ما في قولك لإطهار الحيض من التنافر ردًا مع ما فيه من الإضمار من غير دليل.
وفي الكشاف المراد أي من الآية أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهو أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثًا في ثلاثة أطهار، وقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفروقة، وأما أبو حنيفة. وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد فأما مفروقا في الاطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء».
وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة.
والوقت، وأبو حنيفة يراعى التفريق. والوقت، والشافعي يراعى الوقت انتهى.
وفي فتح القدير في الاحتجاج على عدم كراهة التفريق على الاطهار وكونه من الطلاق السني رواية غير ما ذكر عن ابن عمر أيضًا، وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها، والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو بلفظ واحد كأن يقال: أنت طالق ثلاثًا، وفي وقوع هذا ثلاثًا خلاف، وكذا في وقوع الطلاق مطلقًا في الحيض، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث. ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» ونقله غير واحد عن ابن المسيب. وجماعة من التابعين، وقال قوم منهم فيما قيل طاوس. وعكرمة: الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة، وروي هذا أبو داود عن ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبي بكر. وصدر من خلافة عمر قال: نعم، وفي رواية لمسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبي بكر. وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، ومنهم من قال في المدخول بها: يقع ثلاث، وفي الغير واحدة لما في مسلم. وأبي داود. والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال: أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبي بكر. وصدر من خلافة عمر الحديث، والذي ذهب إليه جمهور الصحابة. والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة وقوع الثلاث بفم واحد. بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع.
ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وابن مسعود. وأبي هريرة. وعثمان بن عفان. وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك، وذكر أيضًا أن إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له مع علمهم بأنه كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته عان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر، واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالاطلاع على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى بعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث، لكن قيل: إن الثلاث فيها يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالق ثلاثًا، وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظ لكن إذا صح الإجماع ولو سكوتيًا على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت، وتأويل ما روي عن عمر، ولذا قال بعض الأئمة: لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه لإجماع الأئمة المعتبرين عليه، وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك، ومن قال: عصيته استدل بما روي النسائي عن محمود بن لبيد قال:
«أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا فقام غضبان فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ا حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله» وا أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له» ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضًا وهو ظاهر كلام ابن الرفعة، ومقتضى قول الروياني واعتمده الزركشي. وغيره أنه يعزر فاعله، ووجه بأنه تعاطي نحو عقد فاسد وهو حرام، ونوزع في ذلك بما فيه نظر، وا في سنن أبي داود عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق زوجته ثلاثًا فقال له: عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك.
ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمرًا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثًا قبل أن يخبره صلى الله عليه وسلم بحرمتها عليه، وقال: إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدًا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا، فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله. جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثًا في موضعه. والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شهبانوا ثلاثًا لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، وقال بعض الحنفية في ذلك: إنه محمول على أنهم قالوا: ثلاثًا للسنة، وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة الدالة على العصيان فيه أنه محمول على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية.
واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف، وفي الاستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث بحث، ورا يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة السافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي، وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء، وليس في فليراجعها أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر، فالمعني فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده، واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة، وإذا راجع ارتفع الاثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت نزلة التوبة ترفع أصل المعصية، وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل، ويندفع بما ذكر ما قيل: رفع الرجعة للتحريم كالتوبة يدل على وجوبها إذ كون الشيء نزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه، ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذا النهي عند أبي حنيفة لا يستلزم الفساد مطلقًا، وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا، وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضًا، وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها قيل: وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكى عن السدي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا أن قوله تعالى: {الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ} الآية نزل في عبد الله بن عمرو بن العاص. وطفيل بن الحرث. وعمرو بن سعيد بن العاص، وقال بعضهم: فعله ناس منهم ابن عمرو بن العاص. وعتبة بن غزوان فنزلت الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى: {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فراجعها عليه الصلاة والسلام، ورواه قتادة عن أنس، وقال القرطبي نقلًا عن علماء الحديث: إن الأصح أنها نزلت ابتداءًا لبيان حكم شرعي، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح، وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي، وظاهرها أن نفس الطلاق مباح، واستدل له أيضًا بما رواه أبو داود.
وابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق» وفي لفظ «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، والمراد من كونه مبغوضًا التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه.
وقال البيهقي: البغض على إيقاعه كل وقت من غير رعاية لوقته المسنون، وبطلاقه صلى الله عليه وسلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة، وقال غير واحد: هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله كل مذواق مطلاق» وإنما أبيح للحاجة، قال ابن الهمام: وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة، ويحمل لفظ المباح على أما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله تعالى شيئًا أبغض إليه من الطلاق فإن الفعل لا عموم له في الأزمان، ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضي بترك ذلك، وما روي عن الحسن وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله: أحب الغني قال الله سبحانه: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل من طلاق الصحابة كطلاق المغيرة بن شعبة الزوجات الأربعة دفعة فقد قال لهن: أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الحاجة، وإن لم يصرح بها، وقال ابن حجر: هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه، أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها، ومن ثم أمر صلى الله عليه وسلم من قال: «إن زوجتي لا ترد يد لامس» أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال في معناه بإمساكها خشية من ذلك. ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم، وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما، أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر، وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب الأعضم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقي من الآباء والأمهات، ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر، أو حرام كالبدعي، أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا: ليس فيه مباح لكن صورة الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمح نفسه ؤنتها من غير تمتع اه.
والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض، والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف، وغيره لمكان قوله سبحانه: {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
{وَأَحْصُواْ العدة} واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتادًا قديمًا ثم صار حقيقة فيما ذكر {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويل العدة عليهن والاضرار بهن، وفي وصفه تعالى بربوبيته عز وجل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن، وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناءًا به، والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضبًا عليهن. أو كراهة لمساكنتهن. أو لحاجة لهم إلى المساكن. أو محض سفه نطوقه، ويتناول عدم الاذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى: {وَلاَ يَخْرُجْنَ} أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلها فظاهر، وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى، والاذن في فعل المحرم محرم فكأنه قيل: لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤمد فلا يسقط بالاذن، وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن؛ وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله: فيه نظر، وقد ذكر الرازي في الأحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالاسقاط انتهى.
والذي يظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي. وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار، وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالاذن، وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} أي ظاهرة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن المنذر. والبيهقي في سننه. وابن مردويه. والحاكم وصححه عن ابن عمر، وروي عن السدى. وابن السائب. والنخعي وبه أخذ أبو حنيفة والاستثناء عليه راجع إلى {لا يَخْرُجْنَ} والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعًا عن الخروج على أبلغ وجه، وقال الإمام ابن الهمام: هذا كما يقال في الخطابية: لا تزن إلا أن تكون فاسقًا.
ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جدًا، والزنا على ما روي عن قتادة. والحسن. والشعبي. وزيد بن أسلم. والضحاك. وعكرمة. وحماد. والليث، وهو قول ابن مسعود. وقول ابن عباس؛ وبه أخذ أبو يوسف، والاستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أي لا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لإقامة الحد عليهن، وقال بعض المحققين: هو راجع إلى الكل وما يوجب حدًا من زنا. أو سرقة. أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب واختاره الطبري، والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس والاستثناء راجع إلى الأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن، وأيد بقراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم بفتح الياء وضم الحاء، وفي موضح الأهواري يفحشن من أفحش، قال الجوهري: أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحس، وفي حرف ابن مسعود إلا أن يفحشن بدون عليكم والنشوز، والمراد إلا أن يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضًا، والاستثناء عليه قيل: راجع إلى الأول أيضًا، وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه إذا سقط حقها في السكنى حل الإخراج والخروج أيضًا، وأيًا مّا كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهى عنه بالاتيان بالفاحشة، وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك.
وقرأ ابن كثير. وأبو بكر {مُّبَيّنَةٍ} بالفتح {وَتِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن {حُدُودَ الله} التي عينها لعباده عز وجل: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في موضع الاضمار لتهويل أمر التعدي والاشعار بعلة الحكم في قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي أضر بها كما قال شيخ الإسلام، ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب، وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه: {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية؛ وقد قالوا: إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلابد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي، وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى.
ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم هاهنا به، وأن قوله تعالى: {لا تَدْرِى} إلخ ليس تعليلًا لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب، وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب، ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر، فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور في تفسيره به فيما يظهر، وجملة الترجي في موضع النصب بـ {لا تَدْرِى}، وعد أبو حيان {لَعَلَّ} من المعلقات، والخطاب في {لا تَدْرِى} للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قيل، فالمعنى من يتعدى حدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر {لَعَلَّ الله} تعالى يحدث في قلبك {بَعْدَ ذَلِكَ} الذي فعلت من التعدي {أمْرًا} يقتضي خلاف ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الاعراض عنها إقبالًا إليها، ولا يتسنى تلا فيه برجعة أو استئناف نكاح.


{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ عْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ عْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفن آخر عدتهن.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهن {عْرُوفٍ} بحسن معاشرة وإنفاق مناسب للحال من الجانبين. {أَوْ فَارِقُوهُنَّ عْرُوفٍ} بايفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلًا للعدة.
{وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ} عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعًا للنزاع، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وقال الشافعي في القديم: إنه للوجوب في الرجعة، وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالاشهاد على الطلاق وأنه مروى عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق {وَأَقِيمُواْ الشهادة} أي أيها الشهود عند الحاجة {لِلَّهِ} خالصًا لوجهه تعالى، وفي الآية دليل على بطلان قول من قال: إنه إذا تعاطف أمران لمأمورين يلزم ذكر النداء أو يقبح تركه نحو أضرب يا زيد. وقم يا عمرو، ومن خص جواز الترك بلا قبح باختلافهما كما في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى لِذَنبِكِ} [يوسف: 29] فإن المؤمور بقوله تعالى: {اشهدوا} للمطلقين؛ وبقوله سبحانه: {أَقِيمُواْ الشهادة} كما أشرنا إليه، وقد تعاطف من غير اختلاف في أفصح الكلام.
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر} أي لأنه المنتفع بذلك، والإشارة على ما اختاره صاحب الكشاف إلى الحث على إقامة الشهادة لله تعالى، والأولى كما في الكشف أن يكون إشارة إلى جميع ما مر من إيقاع الطلاق على وجه السنة. وإحصاء العدة. والكف عن الإخراج والخروج. وإقامة الشهادة للرجعة أو المفارقة ليكون أشد ملاءمة لقوله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}.


{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها، فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة، ولم يضارّ المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجًا مما عسى أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق؛ ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، وفي الأخبار عن بعض أجلة الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس في بعض الروايات عنه ما يؤيد بظاهره هذا الوجه، وجوز أن يكون اعتراضًا جيء به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2] الخ، فالمعنى ومن يتق الله تعالى في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجًا من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة، وتناوله لما نحن فيه تناولًا أوليًا، ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له، فقد أخرج أبو يعلى. وأبو نعيم. والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ} إلخ فقال: مخرجًا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة»، وأخرج أحمد. والحاكم وصححه. وابن مردويه. وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] فجعل يرددها حتى نعست ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم».
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت {وَمَن يَتَّقِ الله}» الآية، وفي رواية ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحق مولى آل قيس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة والسلام: أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقدّ فسقط القدّ عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فإذا سرح للقوم الذين كانوا شدّدوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله}» الخ.
وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزًا فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال: هي لك» إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع، وعلى القول بالاستطراد قيل: المعنى من يتق الحرام يجعل له مخرجًا إلى الحلال، وقيل: {مَخْرَجًا} من الشدة إلى الرخاء، وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: {مَخْرَجًا} من العقوبة {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} من الثواب، وقال الكلبي: {مَن يَتَّقِ الله} عند المصيبة {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} إلى الجنة، والكل كما ترى، والمعول عليه العموم الذي سمعته، وفي الكشف إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن التقوى ملاك الأمر عند الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز وجل لما يتضمن من الايحاش وقطع الألفة الممهدة، ثم الاحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلابد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه، ويحتاط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة، وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه عز وجل في جميع أموره.
وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال: «يقول الرب تبارك وتعالى: إذا توكل عليّ عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج» {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} بإضافة الوصف إلى مفعوله والأصل بالغ أمره بالنصب كما قرأ به الأكثرون أي يبلغ ما يريده عز وجل ولا يفوته مراد.
وقرأ ابن أبي عبلة في رواية. وداود بن أبي هند. وعصمة عن أبي عمرو بالغ بالرفع منونًا {أَمَرَهُ} بالرفع على أنه فاعل بالغ الخبر لأن أو مبتدأ، و{بالغ} خبر مقدم له، والجملة خبر {ءانٍ} أي نافذ أمره عز وجل، وقرأ المفضل في رواية أيضًا بالغًا بالنصب {أَمَرَهُ} بالرفع، وخرج ذلك على أن بالغًا حال من فاعل {جَعَلَ} في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء} لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه، وجملة {أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ} إلخ خبر {ءانٍ}، وجوز أن يكون بالغًا هو الخبر على لغة من ينصب الجزأين بإن كما في قوله:

إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن *** خطاك خفافًا إن حراسنا أسدا
وتعقب بأنها لغة ضعيفة، ومعنى {قَدْرًا} تقديرًا، والمراد تقديره قبل وجوده، أو مقدارًا من الزمان، وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه عز وجل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق. وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر، وفيه على ما قيل: تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة، وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها.
وقرأ جناح بن حبيش {قَدْرًا} بفتح الدال.

1 | 2 | 3 | 4